فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {تَبْغُونَهَا عِوَجًا}:

قال الفخر:
العوج بكسر العين الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى، وهو الدين والقول، فأما الشيء الذي يرى فيقال فيه: عوج بفتح العين كالحائط والقناة والشجرة، قال ابن الأنباري: البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك: بغيت المال والأجر والثواب وأُريد هاهنا: تبغون لها عوجًا، ثم أسقطت اللام كما قالوا: وهبتك درهمًا أي وهبت لك درهمًا، ومثله صدت لك ظبيًا وأنشد:
فتولى غلامهم ثم نادى ** أظليما أصيدكم أم حمارًا

أراد أصيد لكم والهاء في {تَبْغُونَهَا} عائدة إلى {السبيل} لأن السبيل يؤنث ويذكر و{العوج} يعني به الزيغ والتحريف، أي تلتمسون لسبيله الزيغ والتحريف بالشبه التي توردونها على الضعفة نحو قولهم: النسخ يدل على البداء وقولهم: أنه ورد في التوراة أن شريعة موسى عليه السلام باقية إلى الأبد، وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون {عِوَجَا} في موضع الحال والمعنى: تبغونها ضالين وذلك أنهم كأنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله فقال الله تعالى: إنكم تبغون سبيل الله ضالين وعلى هذا القول لا يحتاج إلى إضمار اللام في تبغونها. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاء}:

.قال الفخر:

فيه وجوه:
الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني أنتم شهداء أن في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام.
الثاني: وأنتم شهداء على ظهور المعجزات على نبوته صلى الله عليه وسلم.
الثالث: وأنتم شهداء أنه لا يجوز الصد عن سبيل الله.
الرابع: وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ويعولون على شهادتكم في عظام الأمور وهم الأحبار والمعنى: أن من كان كذلك فكيف يليق به الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وأنتم شهداء} حال أيضا توازن الحال في قوله قبلها {والله شهيد على ما تعملون} ومعناه وأنتم عالمون أنّها سبيل الله.
وقد أحالهم في هذا الكلام على ما في ضمائرهم مِمَّا لا يعلمه إلاّ الله لأنّ ذلك هو المقصود من وخز قلوبهم، وانثنائهم باللائمة على أنفسهم، ولذلك عقّبه بقوله: {وما الله بغافل عما تعملون} وهو وعيد وتهديد وتذكير لأنَّهم يعلمون أنّ الله يعلم ما تخفي الصدور وهو بمعنى قوله في موعظتهم السابقة {والله شهيد على ما تعملون} إلاّ أنّ هذا أغلظ في التَّوبيخ لما فيه من إبطال اعتقاد غفلته سبحانه، لأنّ حالهم كانت بمنزلة حال من يعتقد ذلك. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وأنتم شهداء} أي بالعقل نحو: {وألقى السمع وهو شهيد} أي عارف بعقله، وتارة بالفعل.
نحو قال: {فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} وتارة بإقامة ذلك، أي شهدتم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثه على ما في التوراة من صفته وصدقه.
وقال الزمخشري: وأنتم شهداء أنها سبيل الله التي لا يصدّ عنها إلا ضال مضلٌّ.
أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم، ويستشهدون في عظام أمورهم، وهم الأحبار انتهى.
قيل: وفي قوله: {وأنتم شهداء} دلالة على أن شهادة بعضهم على بعض جائزة، لأنه تعالى سماهم شهداء، ولا يصدق هذا الاسم إلا على من يكون له شهادة.
وشهادتهم على المسلمين لا تجوز بإجماع، فتعين وصفهم بأن تجوز شهادة بعضهم على بعض، وهو قول أبي حنيفة وجماعة.
والأكثرون على أنَّ شهادتهم لا تقبل بحال، وأنّهم ليسوا من أهل الشهادة. اهـ.

.قال ابن عادل:

{لم}: متعلق بالفعل بعده، و{من آمن} مفعوله والعامة على {تُصِدُّون}- بفتح التاء- من صَدَّ يَصُدُّ- ثلاثيًا- ويُستَعْمَل لازمًا ومتعديًا.
وقرأ الحسن {تُصِدُّونَ}- بضم التاء- من أصَدَّ- مثل أعد- ووجهه أن يكون عدى صَدَّ اللازم بالهمزة كقول ذي الرمة: [الطويل]
أناسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمْ

قال الفراء: يقال: صَدَدتُه، أصُدُّه، صَدًّا. وأصْدَدتهُ، إصْدادًا.
وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاءِ الشُّبَه في قلوب الضَّعفَة من المسلمين، وكانوا يُنْكِرون كَوْنَ صفته في كتابهم.
قوله: {تَبْغُونَهَا} يجوز أن تكون جملةً مستأنفةً، أخبر عنهم بذلك- وأن تكون في محل نَصْب على الحال، وهو أظهر من الأول؛ لأن الجملةَ الاستفهاميةَ السابقة جِيء بعدَها بجملة حالية- أيضا- وهي قوله: {والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}.
{وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84].
فتتفق الجملتان في انتصاب الحال عن كل منهما، ثم إذا قُلْنا بأنها حال، ففي صاحبها احتمالان:
أحدهما: أنه فاعل {تَصُدُّونَ}.
والثاني: أنه {سَبِيلِ الله}.
وإن جاز الوجهأن لان الجملة- اشتملت على ضمير كل منهما.
والضمير في {تَبْغُونَهَا} يعود على {سَبِيلِ} فالسبيل يذَكَّر ويؤنث كما تقدم ومن التأنيث هذه الآية، وقوله: {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108].
وقول الشاعر: [الوافر]
فَلاَ تَبَْدْ فَكُلُّ فَتَى أنَاسٍ ** سَيُصْبحُ سَالِكًا تِلْكَ السَّبِيلا

قوله: {عوجًا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به، وذلك أن يُراد بتَبْغُونَ تطلبون.
قال الزجَّاج والطبريّ: تطلبون لها اعوجاجًا.
تقول العرب: ابْغِني كذا- بوصل الألف- أي: أطْلُبه لي، وأبْغِني كذا- بقطع، الألف- أي: أعِنِّي على طلبه.
قال ابنُ الأنباري: البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام، كقولك: بغيت المال والأجر والثواب.
وهاهنا أريد يبغون لها عوجًا، فلما سقطت اللام عمل الفعل فيما بعدَها، كما قالوا وهبتك درهمًا، يريدون وهبت لك، ومثله: صِدْتُك ظبيًا، أي: صدت لك.
قال الشاعر: [الخفيف]
فَتَوَلَّى غُلاَمُهُمْ ثُمَّ نَادَى ** أظِليمًا أصِيدُكُمْ أمْ حِمَارا

يريد: أصيد لكم ظليمًا؟
ومثله: جنيتك كمأة وجنيتك طِبًّا، والأصل جنيت لك، فحذف ونصب.
والثاني: أنه حال من فاعل {تَبْغُونَهَا} وذلك أن يُراد بتبغون معنى تتعدّون، والبغي: التَّعَدِّي.
والمعنى: تبغون عليها، أو فيها.
قال الزجاج: كأنه قال تبغونها ضالين، والعوج بالكسر، والعوج بالفتح- المَيْل، ولكن العرب فرَّقوا بينهما، فخَصُّوا المكسور بالمعاني، والمفتوح بالأعيان تقول: في دينه وفي كلامه عِوَج- بالكسر، وفي الجدار والقناة والشجر عَوَجٌ- بالفتح.
قال أبو عبيدة: العِوَج- بالكسر. المَيْل في الدِّين والكلامِ والعملِ، وبالفتح في الحائط والجِذْع.
وقال أبو إسحاق: الكسر فيما لا تَرَى له شَخْصًا، وبالفتح فيما له شَخْصٌ.
وقال صاحب المُجْمَل: بالفتح في كل منتصب كالحائط، والعوَج- يعني: بالكسر- ما كان في بساط، أو دين، أو أرض، أو معاش، فجعل الفرق بينهما بغير ما تقدم.
وقال الراغب: العِوَجُ: العطف من حال الانتصاب، يقال: عُجْتُ البعير بزمامه، وفلان ما يعوج به- أي: يرجع، والعَوَج- يعني: بالفتح- يقال فيما يُدْرَك بالبصر كالخشب المتصِب، ونحوه، والعِوَجُ يقال فيما يُدْرَك بفِكْر وبصيرة، كما يكون في أرض بسيطة عوج، فيُعْرَف تفاوتُه بالبصيرة، وكالدين والمعاش، وهذا قريب من قول ابن فارس؛ لأنه كثيرًا ما يأخذ منه.
وقد سأل الزمخشريُّ في سورة طه قوله تعالى: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجًا ولا أَمْتًا} [طه: 107]- سؤالًا، حاصله: أنه كيف قيل: عوج- بالكسر- في الأعيان، وإنما يقال في المعاني؟
وأجاب هناك بجواب حَسَنٍ- يأتي إن شاء الله.
والسؤال إنما يَجيء على قول أبي عبيدة والزجَّاج المتقدم، وأما على قول ابن فارس والراغب فلا يرد، ومن مجيء العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملة قول الشاعر: [الوافر]
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا ** كَلاَمُكُمُ عَلَيَّ إذَنْ حَرَامُ

وقول امرئ القيس: [الكامل]
عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأنَّنَا ** نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حِذَامِ

أي: ولم تميلوا، ومِيلاَ.
وأما قولهم: ما يَعوج زيد بالدواء- أي: ما ينتفع به- فمن مادة أخرى ومعنى آخر.
والعاجُ: العَظْم، ألفه مجهولة لا يُعْلم منقلبة عن واوٍ أو عن ياءٍ؟ وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لثوبان: «اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ سِوَارًا مِنْ عَاج».
قال القتيبي: العاجُ الذَّبْل؛ وقال أبو خراش الهذليّ في امرأة: [الطويل]
فَجَاءَتْ كَخَاصِي الْعِيرِ لَمْتَحْلَ عَاجَةً ** وَلاَ جَاجَةً مِنْهَا تَلُوحُ عَلَى وَشْمِ

قال الأصْمَعِيّ: العاجة: الذبلة، والجاجة- بجيمين- خَرَزةَ ما تساوي فلسًا.
وقوله: كَخَاصِي العير، هذا مَثَل تقوله العرب لمن جاء مُسْتَحيًا مِنْ أمْرٍ، فيقال: جاء كخاصي العير.
والعير: الحمار، يعنون جاء مستحيًا. ويقال: عاج بالمكان، وعوَّج به- أي: أقام وقَطَن، وفي حديث إسماعيلَ- على نبينا وعليه السلام-: «ها أنتم عائجون» أي مقيمون.
وأنشدوا للفرزدق: [الوافر]
هَلَ أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا ** نَرَى الْعَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الْخِيَامِ؟

كذا أنشد هذا البيت الهرويُّ، مستشهدًا به على الإقامة- وليس بظاهر- بل المراد بعائجون في البيت: سائلون ومُلْتفتون.
وفي الحديث: «ثم عاج رأسه إليها» أي: التفت إليها.
والرجل الأعوج: السيّئ الخُلُق، وهو بَيِّن العَوَج. والعوج من الخيل التي في رجلها تَجْنيب. والأعوج من الخيل منسوبة إلى فرس كان في الجاهلية سابقًا، ويقال: فرس مُجَنَّب إذا كان بعيد ما بين الساقين غير فَحَجٍ، وهو مَدْح ويقال: الحنبة: اعوجاج.
قوله: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} حال، إما من فاعل {تَصُدُّونَ}، وإما من فاعل {تَبْغُونهَا}، وإما مستأنف وليس بظاهر و{شهداء} جمع شهيد أو شاهد كما تقدم. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ}:

.قال الفخر:

المراد التهديد، وهو كقول الرجل لعبده، وقد أنكر طريقة لا يخفى على ما أنت عليه ولست غافلًا عن أمرك وإنما ختم الآية الأولى بقوله: {وَالله شَهِيدٌ} وهذه الآية بقوله: {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وذلك لأنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين، بل كانوا يحتالون في ذلك بوجوه الحيل فلا جرم قال فيما أظهروه {والله شَهِيدٌ} وفيما أضمروه {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وإنما كرر في الآيتين قوله: {قُلْ يا أهل الكتاب} لأن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه، وتكرير هذا الخطاب اللطيف أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم في الضلال والإضلال وأدل على النصح لهم في الدين والإشفاق. اهـ.

.قال الجصاص:

قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ}.
قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ كَانُوا يُغْرُونَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِذِكْرِهِمْ الْحُرُوبَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَنْسَلِخُوا مِنْ الدِّينِ بِالْعَصَبِيَّةِ وَحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَعَنْ الْحَسَنِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا فِي كِتْمَانِهِمْ صِفَتَهُ فِي كُتُبِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ سَمَّى الله الْكُفَّارَ شُهَدَاءَ وَلَيْسُوا حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ، فَلَا يَصِحُّ لَكُمْ الِاحْتِجَاجُ بِقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فِي صِحَّةِ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَثُبُوتِ حُجَّتِهِ.
قِيلَ لَهُ: أنه جَلَّ وَعَلَا لَمْ يَقُلْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ عَلَى غَيْرِكُمْ، وَقَالَ هُنَاكَ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} كَمَا قَالَ: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} فَأَوْجَبَ ذَلِكَ تَصْدِيقَهُمْ وَصِحَّةَ إجْمَاعِهِمْ.
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} وَمَعْنَاهُ غَيْرُ مَعْنَى قوله: {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} أَنَّكُمْ عَالِمُونَ بِبُطْلَانِ قَوْلِكُمْ فِي صَدِّكُمْ عَنْ دِينِ الله تعالى وَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِقوله: {شُهَدَاءُ} عُقَلَاءَ، كَمَا قَالَ الله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} يَعْنِي: وَهُوَ عَاقِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ الدَّلِيلَ الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)}.
كيف يصد غيره مَنْ هو مصدودٌ في نَفْسِه؟ إنَّ في هذا لَسِرًّا للربوبية. اهـ.

.من فوائد أبي السعود:

قال رحمه الله:
{قُلْ يا أهل الكتاب} أمرٌ بتوبيخهم بالإضلال إثرَ توبيخِهم بالضلال، والتكريرُ للمبالغة في حمله عليه السلام على تقريعهم وتوبيخِهم، وتركُ عطفِه على الأمر السابقِ للإيذان باستقلالهم كما أن قطْعَ قوله تعالى: {لِمَ تَصُدُّونَ} عن قوله تعالى: {لِمَ تَكْفُرُونَ} للإشعار بأن كلَّ واحدٍ من كُفرهم وصدِّهم شناعةٌ على حيالها مستقِلةٌ في استتباع اللائمةِ والتقريعِ، وتكريرُ الخطابِ بعنوان أهليةِ الكتابِ لتأكيد الاستقلالِ وتشديدِ التشنيع فإن ذلك العنوانَ كما يستدعي الإيمان بما هو مصدِّقٌ لما معهم يستدعي ترغيبَ الناسِ فيه، فصدُّهم عنه في أقصى مراتبِ القَباحةِ ولكون صدِّهم في بعض الصورِ بتحريف الكتابِ والكفرِ بالآياتِ الدالةِ على نبُوَّته عليه السلام، وقرئ تُصِدّون من أصَدَّه {عَن سَبِيلِ الله} أي دينِه الحقِّ الموصلِ إلى السعادة الأبدية، وهو التوحيدُ وملةُ الإسلام {مَنْ ءامَنَ} مفعول لتصُدُّون قُدِّم عليه الجارُّ والمجرورُ للاهتمام به. كانوا يفتِنون المؤمنين ويحتالون لصدهم عنه ويمنعون من أراد الدخولَ فيه بجُهدهم، ويقولون: إن صفتَه عليه السلام ليست في كتابهم ولا تقدّمت البِشارةُ به عندهم، وقيل: أتت اليهودُ الأوسَ والخزرجَ فذكّروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروبِ ليعودا إلى ما كانوا فيه {تَبْغُونَهَا} على إسقاط الجارِّ وإيصالِ الفعل إلى الضمير كما في قوله:
فتولى غلامُهم ثم نادى ** أظليمًا أصيدُكم أم حمارا

بمعنى أصيدُ لكم أي تطلُبون لسبيل الله التي هي أقومُ السبل {عِوَجَا} اعوجاجًا بأن تَلْبِسوا على الناس وتُوهِموا أن فيه ميلًا عن الحق بنفي النسخِ وتغييرِ صفةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك. والجملةُ حالٌ من فاعل تصُدّون وقيل: من سبيل الله {وَأَنْتُمْ شُهَدَاء} حالٌ من فاعل تصُدون باعتبار تقييدِه بالحال الأولى أو من فاعل تبغونها أي والحالُ أنكم شهداءُ تشهدون بأنها سبيلُ الله لا يحوم حولَها شائبةُ اعوجاجٍ وأن الصدَّ عنها إضلالٌ قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي شهداءُ (على) أن في التوراة إن دينَ الله الذي لا يُقبل غيرُه هو الإسلام أو وأنتم عدولٌ فيما بينكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا وعظائمِ الأمور {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} اعتراضٌ تذييليٌ فيه تهديدٌ ووعيدٌ شديدٌ، قيل: لما كان صدُّهم للمؤمنين بطريق الخُفْية خُتمت الآيةُ الكريمة بما يحسِمُ مادةَ حيلتهم من إحاطة علمِه تعالى بأعمالهم كما أن كفرَهم بآياتِ الله تعالى لمّا كان بطريق العلانيةِ خُتمت الآية السابقةُ بشهادته تعالى على ما يعملون. اهـ.